إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ(6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ(7)}.
{
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي نخصُّك يا الله بالعبادة،
ونخصك بطلب الإِعانة، فلا نعبد أحداً سواك، لك وحدك نذلُّ ونخضع ونستكين
ونخشع، وإِيَّاك ربنا نستعين على طاعتك ومرضاتك، فإِنك المستحق لكل إِجلال
وتعظيم، ولا يملك القدرة على عوننا أحدٌ سواك .
{ اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي دلنا وأرشدنا يا رب إِلى طريقك الحق ودينك
المستقيم، وثبتنا على الإِسلام الذي بعثت به أنبياءك ورسلك، وأرسلت به
خاتم المرسلين، واجعلنا ممن سلك طريق المقربين {صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} أي طريق من تفضّلت عليهم بالجود والإِنعام، من
النبييّن والصدّيقين والشهداء والصالحين، وَحَسُنَ أولئك رفيقاً {غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} أي لا تجعلنا يا الله من زمرة
أعدائك الحائدين عن الصراط المستقيم، السالكين غير المنهج القويم، من
اليهود المغضوب عليهم أو النصارى الضالين، الذين ضلوا عن شريعتك القدسية،
فاستحقوا الغضب واللعنة الأبدية، اللهم آمين.
خاتمــــــة :في بَيَان الأسرَار القُدْسِيّة في فاتِحَة الكِتاب العَزيز
لا شك أن من تدبَّر الفاتحة الكريمة رأى من غزارة المعاني وجمالها، وروعة
التناسب وجلاله ما يأخذ بلبه، ويضيء جوانب قلبه، فهو يبتدئ ذاكراً تالياً
متيمناً باسم الله، الموصوف بالرحمة التي تظهر آثارها رحمته متجددة في كل
شيء، فإِذا استشعر هذا المعنى ووقر في نفسه انطلق لسانه بحمد هذا الإِله
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وذكّره الحمد بعظيم نعمه وكريم فضله، وجميل
آلائه البادية في تربيته للعوالم جميعاً، فأجال بصيرته في هذا المحيط الذي
لا ساحل له، ثمّ تذكر من جديد أن هذه النعم الجزيلة والتربية الجليلة،
ليست عن رغبةٍ ولا رهبة، ولكنها عن تفضل ورحمة، فنطق لسانه مرة ثانية بـ
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ومن كمال هذا الإِله العظيم أن يقرن الرحمن بـ
"العدل" ويذكّر بالحساب بعد الفضل فهو مع رحمته السابغة المتجددة سيُدين
عباده ويحاسب خلقه يوم الدين {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا
وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.
فتربيته لخلقه قائمة على الترغيب
بالرحمة، والترهيب بالعدالة والحساب {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وإِذا كان
الأمر كذلك فقد أصبح العبد مكلفاً بتحري الخير،والبحث عن وسائل النجاة،
وهو في هذا أشد ما يكون حاجة إِلى من يهديه سواء السبيل، ويرشده إِلى
الصراط المستقيم، وليس أولى به في ذلك من خالقه ومولاه فليلجأ إِليه
وليعتمد عليه وليخاطبه بقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وليسأله
الهداية من فضله إِلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم بمعرفة الحق
واتباعه، غير المغضوب عليهم بالسلب بعد العطاء، والنكوص بعد الاهتداء،
وغير الضالين التائهين، الذين يضلون عن الحق أو يريدون الوصول إِليه فلا
يوفقون للعثور عليه، آمين. ولا جرم أن "آمين" براعة مقطع في غاية الجمال
والحسن، وأي شيء أولى بهذه البراعة من فاتحة الكتاب، والتوجه إِلى الله
بالدعاء؟ فهل رأيت تناسقاً أدق، أو ارتباطاً أوثق، مما تراه بين معاني هذه
الآية الكريمة؟
وتَذَكَّر وأنت تهيم في أودية هذا الجمال ما
يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث القدسي : (قسمت
الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ..) الحديث وأدم هذا التدبير
والإِنعام، واجتهد أن تقرأ في الصلاة وغيرها على مكث وتمهّل، وخشوع
وتذلَل، وأن تقف على رؤوس الآيات، وتعطي التلاوة حقها من التجويد أو
النغمات، من غير تكلف ولا تطريب، واشتغال بالألفاظ عن المعاني، فإِن ذلك
يعين على الفهم، ويثير ما غاض من شآبيب الدمع، وما نفع القلب شيء أفضلُ من
تلاوة في تدبرٍ وخشوعٍ".